الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:

ففي يوم الإثنين (23/2/1436هـ) الذي يوافقه (15/12/2014م) عقد المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي، وكلية الشـريعة والدراسات الإسلامية في جامعة أم القرى ندوة بعنوان: (أثر متغيرات العصـر في أحكام الحضانة) نظراً لأهمية ذلك.

إن الأسرة هي نواة المجتمع، ومن أهم واجباتها حضانة من يحتاج إلى ذلك، وقد يطرأ ما يحتاج إلى تحديد من يتولى الحضانة، وبيان واجباته،وقد عني الفقهاء المتقدمون ببيان أحكام الحضانة لشدة حاجة الناس إليها، وربطوا ذلك بالنصوص الشرعية، ومصلحة المحضون،وبالعرف والعادة، وجعلوها مناط غالب أحكام الحضانة فعللوا الكثير من الأحكام بمراعاة مصلحة المحضون ، وحيث قد برزت مستجدَّات ومتغيرات في عصـرنا الحاضر تؤثر في بعض أحكام الحضانة المبنية على العرف والعادة أو المصلحة فإن الحاجة ماسة إلى إعادة النظر والبحث في تلك المتغيرات، من خلال التراث الفقهي الذي خلفه فقهاؤنا، والاستنارة في ذلك بقواعد الشـريعة ومقاصدها العامة حيث لا ينكر تغير الفتوى في المسائل المبنية على العرف والعادة والمصالح.

لقد تم عقد هذه الندوة بالتعاون بين المجمع الفقهي الإسلامي وكلية الشـريعة والدراسات الإسلامية بجامعة أم القرى ، وشارك فيها علماء، وعالمات من داخل المملكة العربية السعودية وخارجها، بأبحاث رصينة، تم عرضها في (سبع) جلسات، في قاعة الملك عبد العزيز التاريخية في المدينة الجامعية بالعابدية، وقاعة الجوهرة بمقر الطالبات في الزاهر (عبر الشبكة التلفزيونية المغلقة) وفق المحاور التالية:

١- تعريف الحضانة، والمقصد الشرعي منها.
٢- مستحقو الحضانة.
٣- حق القريب الحاضن في المحضون، ووسائل تنفيذه.
٤- حقوق المحضون على الحاضن، وحق النفقة.
٥- التعسف في استعمال حق الحضانة، وأثره.

وبعد مناقشة تلك الأبحاث، خلص المنتدون إلى ما يلي:

أولاً: المبادئ، والمقاصد، والأحكام:
١- الحضانة هي: رعاية من لا يستقل بنفسه وتربيته إلى أن يستقل بنفسه.
٢- الحضانة من الولايات الشرعية التي أولاها الإسلام عناية خاصة، وكان له السبق على الأنظمة الوضعية.
٣- عنيت الشريعة بالأسرة، ورسمت لها الطريق السوي كي يدوم الصفاء، وتستمر الألفة والمحبة، وتسود الرحمة والمودة، وحينئذ يعيش الأولاد في أحضان الأبوين عيشة كريمة بعيدة عن المنغصات والكدر والشحناء.
٤- جاءت الشـريعة في الحضانة بتعاليم سامية ووصايا حكيمة، تعالج ما يطرأ من خصومة بين الزوجين، وتبصرهما بمصلحة الطفل الذي يهمهما أمره، وينشدان سعادته.
٥- عني الشرع بالطفل، عناية فائقة؛ لأن مرحلة الطفولة مرحلة مهمة في حياة الطفل؛ ينبني عليها مستقبله، وبالتالي مستقبل الأمة.

٦- مقصود الشارع من الحضانة: رعاية من لا يستقل بنفسه بتحقيق ما يساعد على بقائه, ويحفظ دينه، وفطرته التي فطره الله عليها, وتعليمه ما يوثق صلته بخالقه، ويحفظ صحته النفسية والعقلية بتحقيق الأمن والطمأنينة، وإشباع حاجته للحنان، ويحفظ أخلاقه بتربيته على الأخلاق الفاضلة من الصدق والأمانة وحب الخير للغير، ويحفظ دنياه بتعليمه وتهيئته لحياة كريمة ينفع بها نفسه ومجتمعه وأمته.
٧ – إن رعاية الصغار ومن في حكمهم واجب كفائي على الأمة يجب على ولي أمر المسلمين تعيين من يقوم بذلك الواجب عند انعدام من يقوم به من الأقارب أو عجزهم ، أو عدم توفر الشروط فيهم.
٨ - الأصل أن ينشأ الأولاد في حضانة الأبوين ورعايتهما، وعلى الأبوين المحافظة على استقرار الأسرة بالعشـرة الحسنة التي أوصى بها الشـرع؛ وقد أكدت الدراسات أنَّ الرعاية المشتركة أقْرب ما تكون إلى استقرار الأسرة، وأن العامل الأساسي في الاضطِراب هو التنازع، وأكدت أنَّ الطفل المحروم من علاقة متوازنة مع والديه يترعرع بنفسيَّة غير سوية، مقارنة مع أمثاله ممَّن يعيشون في وضع أسري مستقر.
9- إذا كـان المحضون بحاجة إلى رعاية لا تتوفر عند الحاضن وجب على وليه توفير ذلك على وجه لا يفوّت حق الحاضن.
10- إذا كان الحاضن غير الأب، فإن ولاية الأب الثابتة له بمقتضـى الأبوة باقية ، فله مراعاة أحواله، وتدبير أموره بالقدر الذي لا يضر بمصلحة المحضون ولا يخل بحق الحاضن .

11- مكانة النساء في الحضانة أولى من الرجال؛ لأنها بهن أليق، ولأنهن أشفق وأهدى إلى التربية، وأصبر على القيام بها، وقاعدة الشـرع أن يقدم في كل ولاية من هو أدرى بمصالحها.
12- الأصل أن حضانة الطفل لأمه زوجة، ولو كانت ناشزاً أو مطلقة متى كانت أهلاً لذلك؛ لقوله  لامرأة جاءت تشتكي له «قالت يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني، فأراد أن ينتزعه مني فقال لها رسول الله : أنت أحق به ما لم تنكحي».رواه أبو داود والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
13- لا يسوغ تخيير الولد في حضانة الوالدين إلا إذا استوى الوالدان في الصلاح و الاستقامة والمحافظة على مصلحة الولد.
قال شيخ الإسلام بن تيمية - رحمه الله -: (و مما ينبغي أن يعلم: أن الشارع ليس له نص عام في تقديم أحد الأبوين مطلقاً، و لا تخيير أحد الأبوين مطلقاً، و العلماء متفقون على أنه لا يتعين أحدهما مطلقاً بل مع العدوان و التفريط لا يقدم من يكون كذلك، على البر العادل المحسن القائم بالواجب).
و قال ابن القيم - رحمه الله - : (و لا التفات إلى قرعة و لا اختيار الصبي في هذه الحالة؛ فإنه ضعيف العقل، يوثر البطالة و اللعب، فإذا اختار من يساعده على ذلك لم يلتفت إلى اختياره، و كان عند من هو أنفع له و أخير، و لا تحتمل الشريعة غير هذا).
14- يراعى في ترتيب مستحقي الحضانة الضابط الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية وهو مبني على أن القرابة من جهة الأب أقوی من القرابة من جهة الأم كما في الميراث والعصبات ، وأن النص الشـ رعي علی تقديم الأم في الحضانة إنما هو لأجل أنوثتها لكون الإناث أقوم بمقاصد الحضانة والتربية من الذكور لا لأجل أمومتها وحاصل ذلك ما يلي:
لما كانت الحضانة ولاية تقوم على الشفقة والتربية والملاطفة كان أحق الناس بها أقومهم بهذه الصفات ، وهم أقارب المحضون ، يقدم منهم أقربهم إليه وأقومهم بصفات الحضانة فإن اجتمع منهم اثنان فصاعدا واستوت درجتهم قدمت الأنثى على الذكر فتقدم الأم على الأب والجدة على الجد ... فإن كانا ذكرين أو أنثيين قدم أحدهما بالقرعة مع استواء درجتهما ، وإن اختلفت درجتهما من الطفل فإن كانوا من جهة واحدة قدم الأقرب إليه فتقدم الأخت علی ابنتها والخالة علی خالة الأم أو الأب...
وإن كانوا من جهتين قدم من في جهة الأب إذا استوت درجتهم مثل أم الأب وأم الأم وأما إذا كانت جهة الأم أقرب وقرابة الأب أبعد كأم الأم وأم أب الأب .... فقد تقابل الترجيحان وهما قوة قرابة الأب وقرب قرابة الأم فيقدم الأقرب إلی الطفل لقوة شفقته وحنوه على شفقة الأبعد.
15- ترتيب مستحقي الحضانة لا يكون إلا بعد توفر شروط الحضانة في الحاضن، وهي:
الإسلام، والعقل، والبلوغ، والاستقامة، والعدالة، والحرية، والقدرة على تربية المحضون والقيام بشؤونه، والمكان الآمن، ويختص الرجال أن يكونوا من العصبات، وإن اختلت هذه الشـروط أو بعضها، أو قامت بعض الموانع انتقلت الحضانة لمن هو بعده في الترتيب.

16- التعسف في استعمال حق الحضانة يقصد به: استعمال حق الحضانة المشـروع على وجه غير مشـروع مما فيه إضرار بالمحضون أو بالطرف الآخر وهو ممنوع شرعاً، سواء أكان الحاضن هو الأب، أم الأم، أم غيرهما ؟،وسواء أكان المتضـرر الطرف الآخر، أم المحضون نفسه؟، والأصل فيه قوله تعالى: (لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ). فهذه الآية أصل جامع في النهي عن أنواع التعسف كافة.
17- من صور التعسف في استعمال حق الحضانة:
(أ) المطالبة بحق الحضانة، أو التنازل عن هذا الحق؛ بقصد الإضرار بالطرف الآخر.
(ب) السفر بالمحضون، أو الهروب به، أو إخفاؤه بقصد الإضرار بالطرف الآخر.
(ج) منع الطرف الآخر من زيارة المحضون، أو رؤيته، أو الاتصال به، أو الحديث إليه.
(د) استعمال حق الزيارة في أوقات لا تلائم الحاضن أو المحضون.
(هـ) منازعة الأب في الحضانة ؛ لإسقاط حق النفقة الواجبة عليه.
(و) إيغار الحاضن صدر المحضون على أقاربه.
18- الإضرار بالمحضون بأي نوع من أنواع الضـرر محرم شرعا؛ ذلك أن المحضون في وضع لا يستطيع فيه الدفاع عن نفسه، وعلى من علم بذلك إبلاغ جهات الاختصاص.
19- نفقة المحضون تكون في ماله إن كان له مال، وإلا فعلى وليه، فإن عدم الولي أو عجز عن النفقة أو بعضها ففي بيت مال المسلمين.
20- تستدام النفقة ويستمر جريانها مع قيام الحاجة؛ حتى بعد البلوغ مادام منشغلاً بالدراسة،ولا يقدر على التكسب، ولو كان صحيحاً خالياً من نقص الخلقة أو نقص الأحكام؛لصعوبة الجمع بين الدراسة الضـرورية في هذا العصـر والاكتساب غالباً.

21- ينظر في تقدير النفقة إلى حال المنفق من حيث عسره ويسره فتقدر النفقة حسب حاله قال تعالى: «لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا»
22- تراعى متغيرات الحال في العصـر الحاضر من؛ (مأكل، ومشـرب، وملبس، ومركب،و علاج، وتعليم، ومسكن وما لابد للمحضون منه) فما كان في الماضي كمالياً، قد يكون اليوم حاجياً، وما كان في الماضي حاجياً، قد يكون اليوم ضرورياً، فالعبرة بما يكفي الحاجة ويدفع الضـرر الواقع أو المتوقع.
23- تراعى متغيرات الحال في العصر الحاضر في الحضانة ؛ كالسفر بالمحضون وتردده بين أبيه وأمه وفي الزيارة .

ثانياً:التوصيات
يوصي المنتدون بما يلي:
1- على الزوجين في حال الشقاق أو الافتراق، أن يتراضيا على حضانة الأولاد، ويرتبا ما يتعلق بسكنهم ونفقتهم ودراستهم و الاتصال واللقاء بهم، و تقديم مصلحة الأولاد وتنشئتهم تنشئة سليمة بعيدة عن المنازعات واللدد في الخصومة وشهوة المغالبة والانتقام والمكايدة.
2- على المعنيين بشؤون الأسرة في العالم الإسلامي ومجتمعات الأقليات مراعاة أحكام الشريعة ومقاصدها العامة في الحقوق والواجبات وإجراءات تنفيذ الأحكام، واختيار الراجح من أقوال أهل العلم، ومراعاة الثوابت الشـرعية ، والمتغيرات المكانية والمستجدات العصرية .

3- التوسع في عقد دورات وندوات للقضاة والمهتمين بالإصلاح الاجتماعي؛ لبيان أحكام الحضانة ومقاصدها وإجراءاتها فيما يجد من قضايا .
4- قيام مؤسسات التعليم ، ووسائل الإعلام، والدعاة، والخطباء، وأئمة المساجد بالإسهام في توعية المجتمع رجالاً و نساءً بالحقوق والواجبات الشرعية في الحضانة.

5- إنشاء مراكز استشارات أسريه يقوم عليها مختصون للرجال و مختصات للنساء يكونون على دراية بالشـريعة الإسلامية والأنظمة، والإجراءات القضائية؛ لتقديم المشورة فيما يتعلق بحقوق الحاضن والمحضون، والتعريف بآليات التقاضي في المحاكم.
6- عرض توصيات ندوة الحضانة على مجلس المجمع الفقهي الإسلامي .

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،،